قال شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله: "وأما
المتفلسفة وأتباعهم فغايتهم أن يستدلوا بما شاهدوه من الحسيات، ولا يعلمون ما وراء ذلك؛ مثل أن يعلموا أن البخار المتصاعد ينعقد سحاباً" أي: المتصاعد من البحار "وأن السحاب إذا اصطك حدث عنه صوت" وهو الرعد "ونحو ذلك، لكن علمهم بهذا كعلمهم بأن المني يصير في الرحم"، يعني: أنه شيء معروف، مرئي بالعين، ولم يقل أن هذا يخالف الدين، بل قال: هذا علم بسيط جداً؛ لا مشكلة فيه؛ كالعلم بأن المني يقع في الرحم، "لكن ما الموجب لأن يكون المني المتشابه الأجزاء تخلق منه هذه الأعضاء المختلفة والمنافع المختلفة على هذا الترتيب المحكم المتقن، الذي فيه من الحكمة والرحمة ما بهر الألباب؟! وكذلك ما الموجب لأن يكون هذا الهواء أو البخار منعقداً سحاباً مقدراً بقدر مخصوص في وقت مخصوص على مكان مختص به، وينزل على قوم عند حاجتهم إليه، فيسقيهم بقدر الحاجة؛ لا يزيد فيهلكوا، ولا ينقص فيعوزوا؟".
يعني: أن هذا المطر -في الأعم الغالب- رحمة من الله تعالى؛ يسوقه الله إلى حيث يشاء.
وأعجب من ذلك -وقد كشف عنه أخيراً- أن السحب في سيرها وحركتها تسير وفق أنظمة معينة، وأن لها سرعات مختلفة؛ بحسب ارتفاعها عن سطح الأرض، وكذلك بحسب أنواعها، وكل ذلك بموازين دقيقة؛ لم يتوصل إلى كثير منها بعد.
وكأن
شيخ الإسلام رحمه الله يقول لهم: ينبغي أن تعلموا ضعفكم وجهلكم وعجزكم، وأن تنسبوا علم ذلك إلى رب العالمين سبحانه وتعالى.
ثم يقول: "وما الموجب لأن يساق إلى الأرض الجرز التي لا تمطر، أو تمطر مطراً لا يغنيها؛ كأرض
مصر؛ إذ كان المطر القليل لا يكفيها، والكثير يهدم أبنيتها"، أي: فما هو السبب في أن يساق لها الماء بالنهر الذي يجري في أرضها؟ "قال تعالى: ((
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ))[السجدة:27] وكذلك السحاب المتحرك، وقد علم أن كل حركة، فإما أن تكون قسرية" يعني لا إرادية ولا اختيارية "وهي تابعة للقاسر" يعني هذه الحركة تنسب إلى المحرك "أو طبيعية" يعني من ذاتها، "وإنما تكون إذا خرج المطبوع عن مركزه، فيطلب عوده إليه، أو إرادية وهي الأصل" وهي الحركات الإرادية الاختيارية كحركات البشر.. يقول: "فجميع الحركات تابعة للحركة الإرادية" يعني حركة المطر وحركة السحاب وحركة الأفلاك، وحركة كل شيء؛ كل ذلك تابع للحركة الإرادية، "التي تصدر عن ملائكة الله تعالى، التي هي المدبرات أمراً، والمقسمات أمراً"، فليست حركة السحب من ذاتها؛ تذهب لتمطر كما تشاء في أي مكان تشاء؛ بل وراء ذلك حكمة وإرادة، ووراء هذه الحركة العابرة الظاهرة حركة إرادية، وهي الملائكة التي لا نراها، والتي أوكل الله سبحانه وتعالى إليها تدبير ذلك وتقسيم الأرزاق، يقول: "والكلام في هذا وأمثاله له موضع غير هذا".